فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان المقصود ردهم عن عنادهم، وكان ذلك في غاية الصعوبة، وكان هذا الكلام لا يرد متعنتيهم- وهم الأغلب- الذين تخشى غائلتهم، عطف على {قل} قوله: {وتوكل} أي أظهر العجز والضعف واستسلم واعتمد في أمرك كله، ولاسيما في مواجهتهم بالإنذار، وفي ردهم عن عنادهم.
ولما كان الوكيل يحمل عن الموكل ثقل ما أظهر له عجزه فيه ويقوم بأعبائه حتى يصير كمن يحمل عن آخر عينًا محسوسة لا يصير له عليه شيء منها أصلًا، عبر بحرف الاستعلاء تمثيلًا لذلك فقال: {على الحي} ولا يصح التوكل عليه إلا بلزوم طاعته والإعراض عما سواها.
ولما كان الأحياء من الخلق يموتون، بين أن حياته ليست كحياة غيره فقال: {الذي لا يموت} أي فلا ضياع لمن توكل عليه أصلًا، بل هو المتولي لمصالحه في حياته وبعد مماته، ولا تلتفت إلى ما سواه بوجه فإنه هالك {وسبح بحمده} أي نزهه عن كل نقص مثبتًا له كل كمال.
ولما كان المسلى ربما وقع في فكره أن من سلاه إما غير قادر على نصره، أو غير عالم بذنوب خصمه، وكان السياق للشكاية من إعراض المبلغين عن القرآن، وما يتبع ذلك من الأذى، أشار بالعطف على غير مذكور إلى أن التقدير: فكفى به لك نصيرًا، وعطف عليه: {وكفى} وعين الفاعل وحققه بإدخال الجار عليه فقال: {به بذنوب عباده} أي وكل ما سواهم عباده {خبيرًا} لا يخفى عليه شيء منها وإن دق، ثم وصفه بما يقتضي أنه مع ما له من عظيم القدرة بالملك والاختراع- متصف بالأناة وشمول العلم وحسن التدبير ليتأسى به المتوكل عليه فقال: {الذي خلق السماوات والأرض} أي على عظمهما {وما بينهما} من الفضاء والعناصر والعباد وأعمالهم من الذنوب وغيرها.
{ألا يعلم من خلق} [الملك: 14] وقوله: {في ستة أيام} تعجيب للغبي الجاهل، تدريب للفطن العالم في الحلم والأناة والصبر على عباد الله في دعوتهم إلى الله، وتذكير بما له من عظيم القدرة وما يلزمها من شمول العلم، والمراد مقدار ستة من أيامنا، فإن الأيام ما حدثت إلا بعد خلق الشمس، والإقرار بأن تخصيص هذا العدد لداعي حكمة عظيمة، وكذا جميع أفعاله وإن كنا لا ندرك ذلك، هو الإيمان، وجعل الله الجمعة عيدًا للمسلمين لأن الخلق اجتمع فيه بخلق آدم عليه السلام فيه في آخر ساعة.
ولما كان تدبير هذا الملك أمرًا باهرًا، أشار إليه بأداة التراخي فقال: {ثم استوى على العرش} أي شرع في تدبير لهذا الملك الذي اخترعه وأوجده، وهم وذنوبهم من جملته كما يفعل الملوك في ممالكهم، لا غفلة عنده عن شيء أصلًا، ولا تحدث فيه ذرة من ذات أو معنى إلا بخلق جديد منه سبحانه، ردًا على من يقول من اليهود وغيرهم: إن ذلك إنما هو بما دبر في الأزل من الأسباب، وأنه الآن لا فعل له.
ولما كان المعصى إذا علم بعصيان من يعصيه وهو قادر عليه لم يمهله، أشار إلى أنه على غير ذلك، حاضًا على الرفق، بقوله: {الرحمن} أي الذي سبقت رحمته غضبه، وهو يحسن إلى من يكفره، فضلًا عن غيره، فأجدر عباده بالتخلق بهذا الخلق رسله، والحاصل أنه أبدع هذا الكون وأخذ في تدبيره بعموم الرحمة في إحسانه لمن يسمعه يسبّه بالنسبة له إلى الولد، ويكذبه في أنه يعيده كما بدأه، وهو سبحانه قادر على الانتقام منه بخلاف ملوك الدنيا فإنهم لا يرحمون من يعصيهم مع عجزهم.
ولما كان العلم لازمًا للملك، سبب عن ذلك قوله على طريق التجريد: {فاسأل به} أي بسبب سؤالك إياه {خبيرًا} عن هذه الأمور وكل أمر تريده ليخبرك بحقيقة أمره ابتداء وحالًا ومآلًا، فلا يضيق صدرك بسبب هؤلاء المدعوين، فإنه ما أرسلك إليهم إلا وهو عالبم بهم، فسيعلي كعبك عليهم، ويحسن لك العاقبة.
ولما ذكر إحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، ذكر ما أبدوه من كفرهم في موضع شكرهم فقال: {وإذا قيل لهم} أي هؤلاء الذين يتقلبون في نعمه، ويغذوهم بفضله وكرمه، من أيّ قائل كان: {اسجدوا} أي اخضعوا بالصلاة وغيرها {للرحمن} الذي لا نعمة لكم إلا منه {قالوا} قول عال متكبر كما تقدم في معنى {ظهيرًا} {وما الرحمن} متجاهلين عن معرفته فضلًا عن كفر نعمته معبرين بأداة ما لا يعقل، وقال ابن العربي: إنهم إما عبروا بذلك إشارة إلى جهلهم الصفة، دون الموصوف.
ثم عجبوا من أمره بذلك منكرين عليه، بقولهم: {أنسجد لما تأمرنا} فعبروا عنه بعد التجاهل في أمره والإنكار على الداعي إليه أيضًا بأداة ما لا يعقل {وزادهم} هذا الأمر الواضح المقتضي للإقبال والسكون شكرًا للنعم وطمعًا في الزيادة {نفورًا} لما عندهم من الحرارة الشيطانية التي تؤزهم أزًا، فلا نفرة توازي هذه النفرة، ولا ذم أبلغ منه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا} فتعلق ذلك بما تقدم، هو أن الكفار يطلبون العون على الله تعالى وعلى رسوله، والله تعالى بعث رسوله لنفعهم، لأنه بعثه ليبشرهم على الطاعة، وينذرهم على المعصية، فيستحقوا الثواب ويحترزوا عن العقاب، فلا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده في إيذاء شخص استفرغ جهده في إصلاح مهماته دينًا ودنيا، ولا يسألهم على ذلك ألبتة أجرًا.
أما قوله: {إِلاَّ مَن شَاء} فذكروا فيه وجوهًا متقاربة أحدها: لا يسألهم على الأداء والدعاء أجرًا إلا أن يشاءوا أن يتقربوا بالإنفاق في الجهاد وغيره، فيتخذوا به سبيلًا إلى رحمة ربهم ونيل ثوابه وثانيها: قال القاضي: معناه لا أسألكم عليه أجرًا لنفسي وأسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم وثالثها: قال صاحب الكشاف: مثال قوله: {إِلاَّ مَن شَاء} والمراد إلا فعل من شاء، واستثناؤه عن الأجر قول ذي شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال ما أطلب منك ثوابًا على ما سعيت، إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه، فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب، ولكن صوره هو بصورة الثواب وسماه باسمه فأفاد فائدتين إحداهما قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله كأنه يقول لك إن كان حفظك لمالك ثوابًا، فإني أطلب الثواب، والثانية إظهار الشفقة البالغة، وأن حفظك لمالك يجري مجرى الثواب العظيم الذي توصله إلي، ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلًا، تقربهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة، وقيل المراد التقرب بالصدقة والنفقة في سبيل الله.
أما قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحى الذي لاَ يَمُوتُ} فالمعنى أنه سبحانه لما بين أن الكفار متظاهرون على إيذائه، فأمره بأن لا يطلب منهم أجرًا ألبتة، أمره بأن يتوكل عليه في دفع جميع المضار، وفي جلب جميع المنافع، وإنما قال: {عَلَى الحى الذي لاَ يَمُوتُ} لأن من توكل على الحي الذي يموت، فإذا مات المتوكل عليه صار المتوكل ضائعًا، أما هو سبحانه وتعالى فإنه حي لا يموت فلا يضيع المتوكل عليه ألبتة.
أما قوله: {وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ} فمنهم من حمله على نفس التسبيح بالقول، ومنهم من حمله على الصلاة، ومنهم من حمله على التنزيه لله تعالى عما لا يليق به في توحيده وعدله وهذا هو الظاهر ثم قال: {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} وهذه كلمة يراد بها المبالغة يقال: كفى بالعلم جمالًا، وكفى بالأدب مالًا وهو بمعنى حسبك، أي لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم وذلك وعيد شديد، كأنه قال إن أقدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه في مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة.
{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}.
اعلم أنه سبحانه لما أمر الرسول بأن يتوكل عليه وصف نفسه بأمور: أولها: بأنه حي لا يموت وهو قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحى الذي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58] وثانيها: أنه عالم بجميع المعلومات وهو قوله: {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58] وثالثها: أنه قادر على كل الممكنات وهو المراد من قوله: {الذى خَلَقَ السموات والأرض} فقوله: {الذى خَلَقَ} متصل بقوله: {الحى الذي لاَ يَمُوتُ} لأنه سبحانه لما كان هو الخالق للسموات والأرضين ولكل ما بينهما ثبت أنه هو القادر على جميع وجوه المنافع ودفع المضار، وأن النعم كلها من جهته فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه.
وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: الأيام عبارة عن حركات الشمس في السموات فقبل السموات لا أيام، فكيف قال الله خلقها في ستة أيام؟ الجواب: يعني في مدة مقدارها هذه المدة لا يقال الشيء الذي يتقدر بمقدار محدود ويقبل الزيادة والنقصان والتجزئة لا يكون عدمًا محضًا، بل لابد وأن يكون موجودًا فيلزم من وجوده وجود مدة قبل وجود العالم وذلك يقتضي قدم الزمان، لأنا نقول هذا معارض بنفس الزمان، لأن المدة المتوهمة المحتملة لعشرة أيام لا تحتمل خمسة أيام، والمدة المتوهمة التي تحتمل خمسة أيام لا تحتمل عشرة أيام، فيلزم أن يكون للمدة مدة أخرى، فلما لم يلزم هذا لم يلزم ما قلتموه وعلى هذا نقول لعل الله سبحانه خلق المدة أولًا ثم السموات والأرض فيها بمقدار ستة أيام، ومن الناس من قال في ستة أيام من أيام الآخرة وكل يوم ألف سنة وهو بعيد لأن التعريف لابد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول.
السؤال الثاني: لم قدر الخلق والإيجاد بهذا التقدير؟ الجواب: أما على قولنا فالمشيئة والقدرة كافية في التخصيص، قالت المعتزلة بل لابد من داعي حكمة وهو أن تخصيص خلق العالم بهذا المقدار أصلح للمكلفين وهذا بعيد لوجهين: أحدهما: أن حصول تلك الحكمة، إما أن يكون واجبًا لذاته أو جائزًا فإن كان واجبًا وجب أن لا يتغير فيكون حاصلًا في كل الأزمنة، فلا يصلح أن يكون سببًا لتخصيص زمان معين وإن كان جائزًا افتقر حصول تلك الحكمة في ذلك الوقت إلى مخصص آخر ويلزم التسلسل والثاني: أن التفاوت بين كل واحد مما لا يصل إليه خاطر المكلف وعقله، فحصول ذلك التفاوت لما لم يكن مشعورًا به كيف يقدح في حصول المصالح.
واعلم أنه يجب على المكلف سواء كان على قولنا أو على قول المعتزلة أن يقطع الطمع عن أمثال هذه الأسئلة، فإنه بحر لا ساحل له.
من ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار بتسعة عشر وحملة العرش بالثمانية وشهور السنة باثني عشر والسموات السبع وكذا الأرض وكذا القول في عدد الصلوات ومقادير النصب في الزكوات وكذا مقادير الحدود والكفارات فالإقرار بأن كل ما قاله الله تعالى حق هو الدين، وترك البحث عن هذه الأشياء هو الواجب وقد نص عليه تعالى في قوله: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانًا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلًا} [المدثر: 31] ثم قال: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] وهذا هو الجواب أيضًا في أنه لم يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك وعن سعيد بن جبير أنه إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر على أن يخلقها في لحظة تعليمًا لخلقه الرفق والتثبت، قيل تم خلقها يوم الجمعة فجعلها الله تعالى عيدًا للمسلمين.
السؤال الثالث: ما معنى قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش}؟ ولا يجوز حمله على الاستيلاء والقدرة، لأن الاستيلاء والقدرة في أوصاف الله لم تزل ولا يصح دخول ثم فيه والجواب: الاستقرار غير جائز، لأنه يقتضي التغير الذي هو دليل الحدوث، ويقتضي التركيب والبعضية وكل ذلك على الله محال بل المراد ثم خلق العرش ورفعه وهو مستول كقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ} [محمد: 31] فإن المراد حتى يجاهد المجاهدون ونحن بهم عالمون، فإن قيل فعلى هذا التفسير يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات وليس كذلك لقوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} [هود: 7] قلنا: كلمة ثم ما دخلت على خلق العرش، بل على رفعه على السموات.
السؤال الرابع: كيف إعراب قوله: {الرحمن فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}؟ الجواب: {الذى خَلَقَ} مبتدأ و{الرحمن} خبره، أو هو صفة للحي، والرحمن خبر مبتدأ محذوف ولهذا أجاز الزجاج وغيره أن يكون الوقف على قوله: {عَلَى العرش} ثم يبتدىء بالرحمن أي هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود والتعظيم إلا له، ويجوز أن يكون الرحمن مبتدأ وخبره قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}.